حين طرد أنور السادات المستشارين العسكريين السوفييت من مصر عام 1972، مهد الطريق لعقود من الهيمنة الأمريكية ، ومثّل ذلك خيبة أمل كبيرة للاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط.
إلا أنّ الرئيس باراك أوباما بدأ التخلّي عن تلك الهيمنة عام 2013، عند رفضه القيام بعمل عسكري ضد الأسد الذي استخدم الغاز السام في غوطة دمشق لقتل المدنيين ، وسعى لاحقًا في 2015 إلى تسوية نووية مع إيران.
على النقيض من ذلك ، قام دونالد ترامب -بمحاولة خجولة- بقصف بعض القواعد العسكرية في سوريا بالصواريخ، عقب المجزرة التي ارتكبها جيش النظام في مدينة خان شيخون بريف إدلب. ثمّ ما لبث أن أعلن خروجه من الاتفاق النووي، وبدأ بإرسال التهديد والوعيد تلو الآخر ضدّ إيران.
وبينما يتأرجح الرئيس الأمريكي بين التهديد بسحق الأعداء، والخروج من الشرق الأوسط بشكل كامل ، فمن المحتمل أن تهمين الغريزة الأخيرة. ربما تجبره بعض الأحداث على الساحة الدولية على القيام ببعض الإجراءات، وفي بعض الأحيان تلزمه مقتضيات السياسة الداخلية ومستشاريه على اتخاذ قرارات تُبدي تمسكاً بالساحة الشرق أوسطية، لكن سيثبت ترامب -في الغالب- أنه أكثر استعداداً للمغادرة من أوباما.
يرى البعض أن ذلك سيؤدي إلى عدم القدرة على التنبؤ بمستقبل المنطقة، وسيزيد في عمر الفوضى التي تلامس معظم جوانب الحياة في جغرافيا الشرق الأوسط. ربما يتم التفاوض على اتفاقات جزئية في اليمن وسوريا وليبيا ، لكن دون إيجاد تسويات دائمة تضع نهايةً للحروب التي تعصف بالمنطقة.
كما أنّ ما يسمى “الصفقة النهائية” للسلام التي وضعها ترامب بين إسرائيل والفلسطينيين، ستولد ميتة ، والعقوبات الأمريكية على إيران لن تطيح بنظام الملالي، وإنما ستقوي تيار المحافظين المتشددين، ولن يفوّت “تنظيم الدولة الإسلامية” أي مساحة سانحة لإعادة إحياء خلاياه، والانقضاض من جديد.
في خضم ازدحام المنطقة بقوات وميليشيات من كل الأصناف والأشكال ، سيكون خطر نشوب حروب جديدة حاضرًا دائماً.
إن لم يكن عن طريق العمد ، فسيكون عن طريق الخطأ. ففي أيلول/سبتمبر أسقطت بطاريات الدفاع الجوي السورية عن طريق الخطأ طائرة تجسس روسية، عندما حاولت استهداف المقاتلات الإسرائيلية ، وهذا يعتبر بمثابة تحذير من الكيفية التي يمكن أن تسوء بها الأمور عندما تخوض العديد من القوى حروبًا مختلفة في أماكن قريبة.
أحد المخاطر المحتملة هو اندلاع حرب بين إسرائيل وإيران وحلفائها ، ولا سيما حزب الله ، الميليشيا الشيعية اللبنانية، كما أنّ أيادي كل من تركيا واليونان ما تزال على الزناد على الرغم من الجنوح إلى المفاوضات لنزع فتيل أزمة الغاز التي اشتعلت في المتوسط، وتبقى عين روسيا مفتوحةً على إدلب التي ما تزال خارج سيطرة قوات الأسد.
سياسات الخليج متوترة، وهي رهن التجاذبات بين إسرائيل وإيران، وتحاول الدول جاهدةً مسك العصا من وسطها كي لا تنجر في حربٍ طاحنةٍ، لا ناقة لها فيها ولا جمل.
وقد أدى مقتل الصحفي المنفي جمال خاشقجي في أكتوبر / تشرين الأول عام 2019، إلى إضعاف موقف الملك سلمان عاهل المملكة العربية السعودية وابنه محمد ، ولي العهد ، اللّذَين عُولت عليهما آمال الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، وهذا قد يؤدي إلى مزيد من القمع ، وتكثيف مؤامراتٍ ضدّ القصر الملكي ، وتعميق الحرب الباردة في البلاد مع قطر وتركيا.
هذا وَضَعَ ترمب في مأزق مع الأصدقاء التقليديين في الخليج، حيث أثار تعاطفه مع بن سلمان موجة من عدم الاستقرار في منطقة الخليح، لكنّ ذهابه عكس ذلك، سيُفقد الشركات الأمريكية السوق لصالح روسيا أو الصين.
روسيا.. الملاذ الآمن

في الواقع ، تُقَدِّم روسيا نفسها -بشكل مبالغ- على أنها القوة التي لا غنى عنها في الشرق الأوسط، فمن خلال التدخل في سوريا عام 2015 ، أنقذت نظام بشار الأسد من السقوط، لكنها تجنبت حتى الآن، الوقوع في مستنقع من النوع الذي أنهك أمريكا في العراق. لقد أظهرت روسيا وقوفها إلى جانب حلفائها ، مهما جعل ذلك منها بغيضة، حيث شحذت تقنياتها القتالية ، وأنشأت عرضًا لمبيعات المعدات العسكرية.
روسيا هي الدولة الوحيدة التي تتمتع بعلاقات ودية مع جميع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين ، من بينهم إسرائيل وتركيا ، كما تربطها علاقات وثيقة بإيران التي تمتلك ميليشياتٍ في كل شبرٍ من المنطقة تقريباً.
ومفتاح أي حل في سوريا، سيكون في يد روسيا وليس أمريكا، فعلى الرغم من تقديم روسيا القوة الجوية لـ “المحور الشيعي” في المنطقة ، إلا أن المملكة العربية السعودية تعاونت مع روسيا لإدارة إنتاج النفط ورفع أسعاره ، وهو ما أثار حفيظة ترامب.
إسرائيل والسعودية والعديد من القادة العرب هتفوا لترمب، الأمر الذي يُسبب ضرراً بالعلاقات المستقبلية مع الديمقراطيين الأمريكيين، لكن دول الخليج ترى في ترمب صديقاً متقلباً ، ولا يُومن جانبه، وخاصةً بعد تصريحه من أنّ العاهل السعودي “قد لا يبقى هناك لمدة أسبوعين بدون الحماية الأمريكية”، وهنا يأتي دور روسيا في توفير وقايةٍ مفيدةٍ ضد اللامبالاة الأمريكية.
تشق الصين طريقها في هذه المنطقة حالها كحال بقية الدول، كما أنها تمتلك قاعدة بحرية في جيبوتي، وقد استدعت سفنها الحربية إلى منطقة الخليج، لأنها تعتبر أكبر مشترٍ لنفط الخليج ، وبالتالي فإن لها مصلحةً حيويةً في أمن المنطقة.
لكن البعض يرى أنّ الصين ستقتصر في الغالب على متابعة الصفقات الاقتصادية، وسيترك العملاق الصيني المشاكل السياسية والأمنية الجنونية لأمريكا، وفي حال فشلت أمريكا ، ستؤول القيادة للدب الروسي.