بعد سياسة تعويم العملات التي بدأت دول العالم باتباعها أواخر القرن الماضي، باتت البنوك المركزية تتمتع بدورٍ كبير واستقلاليةٍ واضحةٍ في السياسة النقدية، من خلال زيادة أو إنقاص عرض العملة، واستهداف التضخم والبطالة في المجتمع.
يمكنكم قراءة:
- لماذا تقوم الدول بطباعة النقود خارج حدودها، وهل تطبع الولايات المتحدة الدولار في الخارج.
- كيف تطبع الدول عملاتها، ما هي الأساسيات والمحددات لطباعة العملة.
هناك سؤالٌ يتردد الآن، حول إمكانية فشل البنوك المركزية في تخفيض قيمة عملتها، من خلال طباعة كميات غير محدودة من المال، وهل يمكنهم شطب خسائرهم دون أي تكلفة؟
من الناحية النظرية ، لا يوجد حد لمقدار الأموال التي يمكن للبنك المركزي طباعتها، ولذلك، يجب أن يكون البنك المركزي قادراً دائماً على تخفيض قيمة عملته في حال كانت محددة حقاً.
حيث تقوم بعض الدول بتحديد سعر عملتها أمام العملات العالمية، وذلك من خلال التزام البنك المركزي بدفع مبلغٍ ما مقابل عملته الوطنية. فمثلاً تقوم مؤسسة النقد السعودي بدفع دولارٍ واحد مقابل كل 3.75 ريال سعودي، وكذلك تفعل معظم دول مجلس التعاون الخليجي.
بالطبع هذا يخلق ضغوط كبيرة على البنوك المركزية، من حيث ضرورة توافر احتياطيات نقدية لمواجهة الطلب على العملة المحلية، وربما يكون من الأفضل أن لا تكون العملة متداولة بشكل كبير على مستوى العالم، وإلّا سيلجأ البنك إلى تعويم العملة وترك سعرها خاضعاً لتجذبات العرض والطلب.
البنوك المركزية ومن خلال طباعة النقود، يمكنها تخفيض العملة بثلاث طرق:
أولاً، تتسبب طباعة النقود بالتضخم، والتضخم العالي يجعل قدرة الدولة على المنافسة ضعيفة، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب نسبيًا على صادراتها، وبالتالي تنخفض العملة لقلة الطلب عليها.
ثانياً، زيادة المعروض النقدي تمكن البنك المركزي من شراء المزيد من العملات الأجنبية، مما يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة المحلية.
ثالثاً، من خلال التصريحات بطباعة المزيد من النقود والحفاظ على انخفاض العملة، فإنَّ ذلك يُثني المضاربين عن شراء تلك العملة، لأنًّه من غير المرجح أن تكون رهانًا جيدًا.
في سويسرا مثلاً، حين التزم البنك المركزي بربط الفرنك السويسري باليورو، كان مضطرّاً لشراء ما يكفي من العملات الأجنبية لمنع أي تذبذب إضافي في قيمة الفرنك السويسري.
للإجابة على السؤال، فإنَّه يمكن للبنك المركزي خفض قيمة عملته إذا ما قرر ذلك، وهذا بلا شك يعتمد على قوة اقتصاد الدولة، وبالرغم من ذلك، ستأتي طباعة النقود وتخفيض قيمة العملة بمشاكل أخرى أكثر أهمية وهي التضخم. لذا سيكون البنك المركزي حذرًا جدًا من خلق ضغوط تضخمية غير مستدامة من خلال طباعة الكثير من الأموال.
سياسة التدخل في سعر الصرف
إذا ما نظرنا إلى سويسرا واليابان ، فإن عملتهما ترتفع بسبب الطلب عليها من قبل المضاربين، بسبب المخاوف التي تحيط جميع العملات الأخرى، حيث يُنظر إلى الين الياباني والفرنك السويسري على أنهما ملاذ آمن. وهذا بدوره يمكن أن يتسبب في ارتفاع قيمة العملة بشكل مدمر، وأكثر بكثير مما توحي به الأساسيات الاقتصادية، حيث كان ارتفاع قيمة الفرك السويسري يهدد الصادرات والنمو الاقتصادي في سويسرا.
هذا يضعنا أمام تساؤل آخر، لماذا يسهل على البنك المركزي تخفيض قيمة العملة، في حين يصعب عليه تعزيز عملته؟
كما ذكرنا.. من السهل على البنك المركزي أن يخلق الأموال ليخفض سعر الصرف، لكن من الصعب تقوية العملة إذا لم تتفق الأسواق والمستثمرين على أن الأمر يستحق ذلك القدر.
يمكن للبنك المركزي الدفاع عن العملة المحلية وتقويتها من خلال عدّة إجراءات:
- يقوم المركزي بزيادة أسعار الفائدة، وهذا عادة ما يجذب ذلك تدفقات الأموال الساخنة، للاستفادة من معدلات العائد الأفضل، حيث يقوم رجال الأعمال بشراء تلك العملة، ووضعها في البنوك للاستفادة من الفائدة العالية، وذلك يؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة.
لكن هل تنجح هذه الطريقة دائماً؟
هناك الكثير من حالات الفشل عند اللجوء إلى هذه السياسة، حيث فشلت المملكة المتحدة في ذلك عام 1992، إذ لم تكن الأسواق مقتنعة بأسعار الفائدة المرتفعة التي يقدمها المركزي البريطاني، إذ دارت الشكوك بأنَّ الحكومة لا تستطيع الحفاظ على أسعار الفائدة عند 15٪، وكان ذلك صحيحاً.
وكذلك فشلت تركيا والأرجنتين في منع انزلاق العملة الوطنية، عندما رفعتا أسعار الفائدة بشكل كبير، فقد وصلت أسعار الفائدة في تركيا إلى 26% في العام 2019، في حين ذهبت الأرجنتين في ذات العام إلى أبعد من ذلك، عندما وصلت أسعار الفائدة فيها إلى 60%.
- قد يرجع ضعف العملة إلى التراجع الأساسي في القدرة التنافسية للبلد، بسبب انخفاض إنتاجية العمّال والموظفين وارتفاع الأجور، وهذا ما لا يمكن للبنك المركزي فِعْلُ شيءٍ تجاهه. ستحتاج الحكومة إلى استراتيجية طويلة الأجل لزيادة القدرة التنافسية والإنتاجية.
يستطيع البنك المركزي في هذه الحالة أن يتسبب بحدوث انكماشٍ في الاقتصاد، من خلال رفع أسعار الفائدة، ولكن هذا لوحده لا يعيد القدرة التنافسية والحيوية لقطاع التصدير.
- أيضاً، يمكن لأزمة الديون أن تُحدث انخفاض في سعر صرف العملة، فإذا كانت الأسواق تخشى حدوث تخلف عن السداد من قبل الحكومة، فسوف تقوم ببيع تلك العملة، وعدم شراء سندات الخزينة التي تصدرها تلك البلد، وبالتالي لا يملك البنك المركزي الكثير من الوسائل للتعامل مع هذه الأزمة مالية، وهذا يتطلب الانتباه إلى عجز الميزانية والسياسة المالية.
هناك بعض الأشياء التي يمكن للبنك المركزي القيام بها، بهدف الحفاظ على استقرار سعر الصرف، مثل استهدافٍ ناجحٍ للتضخم، والحفاظ على النمو الاقتصادي المستدام. لكن من المفيد أن نعرف، أنَّه لا يملك عصا سحرية يتصرف بها كيفما يشاء، ولا يستطيع معالجة جميع المشاكل دون أن يترتب على تلك السياسات بعض الآثار الجانبية التي قد تكون مدمّرة في بعض الأحيان.